بدأت فكرة التخلص من التوحد في عام ١٩٨٧، بعدما نشر باحث وعالم رائد في تحليل السلوك التطبيقي “A.B.A”، و اسمه لوڤاز، دراسة أجراها على ١٩ طفل توحدي، أعمارهم تتراوح بين الـ ٣ إلى ٤سنوات. في هذه الدراسة، حصل كل طفل على أربعين ساعة مكثفة من التدريب أسبوعيًا. أيضًا، أدرج هذا الباحث في دراسته ١٩ طفلًا توحديا آخرون بغرض المقارنة، وأعطاهم عشرة ساعات أو أقل من التدريب غير المكثف أسبوعيا. أشارت نتائج دراسة هذا الباحث، أن نصف عدد الأطفال الذين تلقوا أربعين ساعة من التدريب تخلصوا تماما من التوحد بينما لم يتخلص طفلا واحدا من المجموعة الأقل تدريبًا. واجهت دراسته الانتقادات و ردَّات فعل غاضبة بسبب بعض الأخطاء المنهجية وطريقة علاجه التي شملت أيضًا على استخدام الأصوات الحادة والضوضاء، الصفعات، وحتى الصعقات الكهربائية.
بعد دراسة لوڤاز، أُجريت الكثير من الأبحاث لدراسة احتمالية تخلص الأطفال من التوحد. كانت نتائج هذه الدراسات تشير إلى التطور الكبير عند الأطفال بعد تلقيهم التدريب المكثف.
بعض الدراسات المشابهة وهي معدودة زعمت أن بعض الأطفال استطاعوا التخلص من التوحد ولكن، أيضًا كانت الانتقادات تدور حول نتائجها لعدة أسباب، كان من ضمنها حصول الأطفال على تشخيص خاطئ من البداية.
وفِي الفترة الزمنية من ٢٠١٢-٢٠١٤ نُشرت دراستين مقننة وقوية جدًا في منهجيتها، نتائج تشير إلى صحة النظرية التي تدعم قابلية بعض الحالات للتطور الكبير والذي قد يساعدها في الخروج عن إطار ومعايير التشخيص، التخلص من التوحد، ولكن عند عدد قليل جدًا من الأطفال.
أقيمت الدراسة الأولى من قبل إكلينيكية/أخصائية في علم النفس العصبي، اسمها ديبورا فين من جامعة كونيتيكت. في هذه الدراسة، تتبعت فين ٣٤ طفل توحدي ووجدت أن هؤلاء الأطفال قد فقدوا معايير الحصول على التشخيص بالتوحد مع مرور الزمن!
ونُشرت الدراسة الثانية في مايو ٢٠١٤، حيث نَشرت مجموعة أخرى من الباحثين، بقيادة كاثرين لورين المشهورة في تشخيص وتقييم التوحد والتي تدير مركزًا كبيرًا للتوحد في قسم الطب في كلية ووييل كورنيل، دراسة تتبعت فيها سجلَّات ٨٥ يافعا قد حصلوا على التشخيص عندما كانوا أطفالا. وجدت كاثرين وفريقها بأن حوالي ٩٪ من هؤلاء الأشخاص أصبحوا لا يستوفون معايير التشخيص بالتوحد.
تقول جيرالدين داوسون، وهي عالمة نفس وباحثة في قسم الطب النفسي بجامعة ديوك ومعهد علوم الدماغ: “أولئك الذين يعملون عن قرب مع الأطفال التوحديين، مثلنا، يعلمون بوجود مثل هذه الحالات وقدَّرت هي وزملائها بأن ١٠٪ من الأطفال التوحديين الذين تعاملوا معهم شخصيًا قد فقدوا أعراض التوحد مع مرور الزمن!
وهنا يشير العلماء والباحثون بأن ما يسمى بالتوحد قد يكون في الواقع مجموعة من الحالات المختلفة والتي لها اختلافات وراثية وبيئية واسعة وتختلف عن بعضها البعض ولكنها تُحدث أعراضًا متشابهة. وإن صح هذا التفسير، فقد يساعدنا هذا في تفسير تقدٌم بعض الأطفال التوحديين بشكل كبير جدًا.
تقول كاثرين فين: “في الوقت الراهن، وعلى الرغم من أن مثل هذه النتائج هي مجرد معلومات بسيطة، أنا وبرغم مجال عملي وتعاملي مع الأطفال التوحديين منذ ٤٠ عامًا، لا أستطيع التنبؤ بمَن مِن هؤلاء الأطفال قادر على تجاوز معايير التشخيص أو حتى يتحسن. مازال هناك الكثير مما لا نفهمه.”
في دراسة فين، بعض ممن خرجوا عن معايير التشخيص من الأطفال كانوا قد تلقوا ساعات أكثر من العلاج بتحليل السلوك التطبيقي وفي وقت أبكر عن غيرهم من الذين ظلٌوا يستوفون معايير التشخيص. على النقيض، بعضٌ من هؤلاء الأطفال ايضًا والذين تجاوزوا معايير التشخيص لم يتلقوا أي تدخل من الأساس!
يرفض بعض الباحثين فكرة أن التخلص من التوحد هو الغاية الأسمى والهدف الجوهري. يقول أري نئمان، وهو رئيس شبكة مناصرة التوحد الذاتية، وهي مجموعة وطنية يديرها ويوجهها للتوحديين الكبار حتى يطالبوا و يناصروا من أجل أنفسهم: “أن التوحد ليس مرضًا في حاجة إلى علاج”. ويقول أيضًا أنه من المهم جدًا أن نتذكر أن الصفات المحددة للأشخاص التوحديين، والتي قد تبدو غريبة للبقية، هي في الواقع قيِّمة جدًا وجزءا من هويتهم.”
يدعم نئمان وفريقه هنا ضرورة التدخل المبكر والذي يُحسِّن التواصل ويساعد على تطوير المهارات المعرفية والاجتماعية المستقلة، ولكنهم مستاؤون بشدة من التركيز على محاولة التخلص من التوحد أو محوهِ كليَّا.
يتساءل نئمان، لماذا لا نتقبل التوحد؟ لماذا لا يكون هدفنا هو مساعدة الأشخاص التوحديين ليعيشوا بشكل مستقل، لديهم أصدقائهم ووظيفتهم، فاعلين ومساهمين في بناء المجتمع؟
لماذا تُشكِّل الرفرفة باليد أو حتى انعدام التواصل البصري أهمية عندنا أكثر من أهمية قدرات بعضهم العالية في برمجة الكمبيوتر، الرياضيات، التركيب والتصميم وحتى الموسيقى؟ ما هو الدليل على أن أولئك الذين تجاوزوا معايير التشخيص هم أكثر نجاحًا أو سعادة من أولئك الذين مازالوا في إطاره؟
يُتابع نئمان: “نحن لا نعتقد أنه من الممكن إعادة توصيل أدمغتنا بشكل جذري لتغيير طريقة تفكيرنا و تفاعلنا مع العالم”. “لكن حتى لو كان هذا الشيء ممكنًا، فإننا لا نعتقد أنه سيكون أخلاقيَّا”. ويزعم هو وفريقه بـ أن التوحد مثله مثل العُسرية؛ الكتابة باليد اليسرى، فقط اختلافًا وليس نقصًا أو شيئًا مرضيًا.”
وفي عام ١٩٩٣، كتب رجل يدعى جيم سنكلير خطابًا مفتوحًا لأولياء أمور الأطفال التوحديين، مما أثار ما سيعرف باسم حركة الـ neurodiversity “الاختلافات العصبية، إن صحت الترجمة”. كتب سينكلير لهم عن التوحد: “لوّنوا كل تجربة، كل إحساس، كل إدراك، كل عاطفة، كل لقاء، كل جانبٍ من وجودهم. لا يمكنكم فصل التوحد عن الشخص – وإذا كان ذلك ممكنًا، فلن يكون الشخص الذي غادرتموه هو الشخص نفسه الذي بدأتم معه. . .. لذلك، عندما يقول الوالدان: “أتمنى لو لم يكن طفلي توحديًا، إن ما يقولونه حقًا هو: “أتمنى لو أن طفلي التوحدي لم يكن موجودًا من الأساس وأن ما أريده هو طفلًا آخر بلا توحد”.
لكن وفي الحقيقة، هناك العديد من الأسرار التي لا تزال قائمة حول التوحد. تقول كاثرين لورد: “أرى الكثير من أولياء أمور الأطفال التوحديين في سنّ السنتين والذين سمعوا قصصًا عن مجاوزة بعض الأطفال لـ تشخيص التوحد” ودائما يقولون لنا: “أريد أن يكون طفلي واحدًا من هؤلاء الأطفال”. نذكرهم دائِمًا بأن مثل هؤلاء الأطفال الذين يتجاوزون معايير التشخيص بـ التوحد هم فقط قلة. كما تطلب من الوالدين التركيز على مساعدة طفلهم في الوصول إلى أقصى إمكانياته، بـغض النظر عن نبذ المجتمع وقلة وعيه. تقول: “عندما تركز أكثر على” الحصول على الكمال “، أنت تؤذي طفلك.” من الجيد أن تأمل ولكن لا تركز على هذا الأمل كثيرًا فـ تفقد رؤية الطفل الماثل أمامك.”
وأحثٌ انا، مترجمة المقال ووالدة طفل توحدي لطيف جدًا، كل الآباء والأمهات على التقبل والدعم بلا حدود. مازالت الإجابات مبهمة ومازالت حدود المعرفة في مجال اضطرابات التوحد ضيقة جدًا. تذكروا دائِمًا أننا جيشهم الوحيد و أن أطفالنا نعمة وأيما نعمة! إن تقبلهم هو جزء من تقبلنا لأنفسنا. إن أعظمُ ما نُعطيه لأطفالنا هو الحب و الرضا بهم وعليهم؛ أن نكون قادرين على تقبل اختلافاتهم.
أغلقوا نوافذ الحيرة وافتحوا أبواب الرضا والحب. ولأني افهم جيدًا كيف تكون في عزلة عن العالم بأسره وأنت تفكر في جزء من قلبك يمشي على الأرض، أشجعكم ايضًا على طلب المساعدة من المختصين في الحصول على تشخيص او التدخل المبكر عن طريق منهجية مدرسة تحليل السلوك التطبيقي. لا تفقدوا الأمل ولا تقفوا عاجزين عن الخطى، بالحب والصبر ستنبت في قلوبكم وقلوب أطفالكم سعادة لا حد لها.
أنتم دائِمًا في دعائي.
ودمتم بخير.