د. خديجة العصلاني
دكتوراة من جامعة بوردو الأمريكية في علم اللغة
هناك الكثير من الإعاقات التي لا يمكن تمييزها بسهولة لكونها غير ظاهرة و غير مرئية. تضيف مثل هذه الإعاقات صعوبات وتحديات كبيرة لحياة الأشخاص الذين يعانون منها و تؤثر على جودة علاقاتهم وتواصلهم مع الغير. إن اضطراب اللغة النمائي هو أحد هذه الاضطرابات غير المرئية والمزمنة التي تجعل من مهمة التواصل الاجتماعي مهمة صعبة تمثل عائق أمام الحصول على حياة وعلاقات اجتماعية بجودة عالية عند الأشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب صغاراً كانوا أو كبارا.
تعريف اضطراب اللغة النمائي
هو اضطراب تنتج عنه مشكلات مزمنة و خفية، غير ظاهرة بدنياً، في استخدام و/ أو فهم اللغة و هو شائع بشكل كبير حيث يظهر عند حوالي 1 من أصل كل 15 طفلًا. ينتج عن هذا الاضطراب وجود مشكلات وصعوبات من ضمنها عدم فهم ما يقوله الآخرين أوصعوبة في صياغة أفكارنا للتعبير عن أنفسنا عندما نتواصل مع من حولنا. ببساطة، يرتبط هذا الاضطراب بوجود تأخر في قدرات الأطفال اللغوية مقارنةً بأقرانهم من الفئة العمرية ذاتها على الرغم من عدم وجود أي اضطرابات نمائية أخرى عندهم. و نتيجة لوجود هذا الاضطراب، تنتج لدينا مشاكل في استخدام وفهم اللغة تعيق اختلاطنا مع الأقران والتواصل معهم والتعبير لهم و حتى التعلم بشكل عام. و على الرغم من أنه حالة مرضية مزمنة إلا أنه عندما يُعالج بالتدخل المبكر فإنه يتحسن وبالتالي يطور من جودة حياة الأشخاص المشخصين به.
لماذا يُصاب بعض الأطفال دون غيرهم باضطراب اللغة النمائي؟
أن الإجابة على هذا السؤال معقدة للغاية وليست بسيطة، فعلى الرغم من كثرة الأبحاث التي تناولت اضطراب اللغة النمائي، فإننا حتى الآن لا نعرف ولا نستطيع أن نجزم أن سببا بذاته يؤدي لإصابة بعض الأطفال دون غيرهم بهذا الاضطراب. من المحتمل أن يكون هذا الاضطراب نتيجة لعدة من عوامل مختلفة، منها:
صفات وسمات لها علاقة بالتكوينة البيولوجية الخاصة بالطفل
فقد يلعب التركيب الجيني للطفل دورًا في إصابته باضطراب اللغة النمائي، و على الأغلب قد يكون هذا الاضطراب حالة وراثية جينية. كما قد يكون للتركيبة و الطريقة التي يتكون منها مخ الطفل و الأجزاء المختلفة من الدماغ التي تغذي بعضها البعض دورًا في الإصابة بهذا الاضطراب.
- الإدراك المعرفي والقدرات الذهنية
هناك اختلافات وفروقات فردية عند كل طفل وبين كل طفل و آخر لها علاقة بالقدرات الذهنية و طريقة استقبال المعلومات الجديدة و معالجتها. يُطلق على هذه العمليات الذهنية مصطلح الإدراك المعرفي. فنجد مثلاً بعض الأطفال أسرع من بعضهم الآخر في التفكير والتحليل والربط المعلوماتي و حتى في مهارات الحفظ والاستيعاب. وقد تلعب أحد أو كل هذه الفروقات في الإدراك المعرفي والقدرات الذهنية دورًا في إصابة الطفل بهذا الاضطراب.
- العوامل البيئية
تلعب البيئة التي ينمو فيها الطفل دورًا في إصابة الطفل باضطراب اللغة النمائي من عدمه. فيمكن لبيئة الطفل أن تزيد من خطر إصابة الطفل بهذا الاضطراب أو تقلل من حدته. و هنا يجدر بنا التفريق بين البيئة الفقيرة من المحفزات اللغوية وتلك الغنية بها وبين العلاقة بين كل منهما وبين اضطراب اللغة النمائي. من الخطأ أن نعتقد بأن وجود الاضطراب له علاقة مباشرة و صريحة مع وجود نقص في المحفزات اللغوية من بيئة الطفل و أن الطفل سيصاب بهذا الاضطراب في حال لم يحدث معه والداه بشكل كافٍ.
و حتى الآن لا يمكن أن نجزم بأن عامل واحد أو حتى عدة عوامل من المذكورة أعلاه هي السبب المباشر والرئيسي في وجود اضطراب اللغة النمائي من عدمه. فمن المحتمل أن يكون وجود الاضطراب هو نتيجة لوجود عوامل مختلفة ومتداخلة مع بعضها البعض.
ما أنواع المشكلات اللغوية التي يعاني منها الطفل/ الشخص المصاب باضطراب اللغة النمائي؟
من المهم أن نتفق على أن اللغة مهارة وقدرة معقدة للغاية حتى نستطيع استيعاب أنواع التحديات التي يواجها الطفل أو الشخص المصاب باضطراب اللغة النمائي. كذلك قد تختلف هذه الصعوبات من طفل لآخر وقد يطرأ عليها بعض التطورات كلما تقدم الطفل في العمر. لكن بشكل عام و مجمل، هذه بعض المشكلات اللغوية الشائعة التي قد يعاني منها الأطفال والكبار الذين يعانون من اضطراب اللغة النمائي:
- صعوبة في استخدام القواعد اللغوية والتراكيب النحوية السليمة. فعلى سبيل المثال، يمكن للطفل المصاب بالاضطراب أن يقول جملة مثل: “هو يلعب بالخارج ليلة أمس” بدلًا من “هو لعب بالخارج ليلة أمس”، وفي هذا المثال نجد أن الطفل واجه صعوبة في استخدام صيغة الزمن الماضي من الفعل للدلالة على حدوثه في الماضي. و هذا فقط خطأ نحوي واحد من عدة أخطاء آخرى قد يقع فيها الأطفال و التي تختلف باختلاف اللغة التي يتحدثها الطفل و نظامها النحوي الخاص بها.
- صعوبة في تمييز أو نطق بعض الأصوات. و يُلاحظ هذا النوع من التحديات بشكل أكبر عند الأطفال الصغار أكثر من الأطفال الأكبر عمراً. فعلى سبيل المثال، قد لا ينطق الأطفال المصابون باضطراب اللغة النمائي بعض المقاطع الصوتية لبعض الكلمات (فيقول الطفل “طيخ” بدلًا من “بطيخ”). وقد يستخدم هؤلاء الأطفال مقاطع صوتية خاطئة عند نطق كلمات معينة (فيقول الطفل “أحمل” بدلًا من “أحمر”).
- حصيلة قليلة و محدودة من المفردات. فقد يكون لدى الأطفال المشخصين باضطراب اللغة النمائي عدد مفردات أقل مقارنة بأقرانهم في العمر. كما قد يتأخر الأطفال الصغار في السن المصابون بهذا الاضطراب في نطق كلماتهم الأولى مقارنة ببقية الأطفال وقد يستغرقوا مدة أطول لتعلم كلمات جديدة أو حتى تذكرها. كذلك من المحتمل أن تستمر مشكلة تذكر بعض الكلمات لفترة طويلة من الزمن. علاوة على ذلك، من الوارد أن تستمر الصعوبات في توظيف المفردات عند الأطفال المشخصين بالاضطراب مما يعيق تعلمهم بشكل سليم أن بعض الكلمات لها أكثر من معنى واحد.
- مشكلات لها علاقة بالاستخدام الصحيح والأمثل للغة في المواقف الاجتماعية المختلفة. فقد يواجه الأطفال مشكلة وعائق أمام قدرتهم على متابعة الحديث عن أو فهم موضوع ما أو حتى الخروج عنه أو محاولة تغييره. هناك أيضاً مشكلات أخرى لها علاقة بقدرة الأطفال على تبادل أطراف الحديث و أدوراه أو حتى فهم أو إصدار الجمل الطويلة والمركبة. وقد يصعب عليهم أيضًا استخدام الكلمات الخاصة بالتعبير عن المشاعر فيواجهوا تحدي أمام قدرتهم على التعبير عن أنفسهم. كما أن الإحباط و الغضب هي بعض المشاعر السلبية التي قد تنتاب الأطفال والتي قد لا يحسنوا التعبير عنها إلا عن طريق سلوكيات سلبية غير مقبولة.
حسناَ، كيف يمكننا مساعدة الطفل المصاب باضطراب اللغة النمائي؟
من المهم للغاية أن نعي بأن السعي للحصول على الدعم المناسب ضروري ومهم جداً ولا يحصل إلا عن طريق زيارة أخصائي أمراض النطق والتخاطب المختص والمرخص لما له من دور فاعل في إحداث فارق كبير في حياة الأطفال المصابين بهذا الاضطراب.
كما أن علينا دائماً كأهالي اتخاذ الخطوة الأولى في حصول طفلنا على التشخيص المناسب و المساعدة الملائمة في حال وجود مشكلة. و على الرغم من أننا اتفقنا بأن سمات اضطراب اللغة النمائي قد تختلف من طفل لآخر إلا أننا يجب أن نتفق على أن التظافر وعدم إهمال الأعراض التحذيرية التي قد تشير لوجود الاضطراب أمر مهم للغاية. من هذه العلامات التحذيرية وجود بعض المشكلات الدراسية عند الطفل، فاللغة عامل مهم و تلعب دور أساسي في مساعدتنا على فهم واستيعاب كل مادة. كذلك من العلامات التحذيرية الأخرى ملاحظتنا لوجود مهارات لغوية أقل عند أطفالنا مقارنة بأقرانهم في العمر. و هنا نشير مرة أخرى لدور التدخل المبكر المهم والكبير جداً في مساعدة الأطفال و تحسين مهاراتهم اللغوية بالتالي جودة حياتهم و تواصلهم خارج أو داخل الصفوف الدراسية. كذلك و من خلال رفع مستوى الوعي الثقافي حول اضطراب اللغة النمائي، نشدد على دورنا المهم في التعاون و نشر المعلومات الصحيحة عن هذا الاضطراب والتي تساعد في جعله أقل غموضًا. نحن جميعاً نتحمل مسؤولية مشاركة ما نعرفه عن اضطراب اللغة النمائي مع الآخرين حتى نتمكن ويتمكن الباحثون والاختصاصيون من مواصلة العمل بجد كل يوم للمساعدة في جعل حياة الأطفال المصابين بهذا الاضطراب أسهل.
لا تنسى أن بإمكانك الاستفادة من التقييم اللغوي المعتمد المتاح على تطبيق ينمو الأسرة في تشخيص حالة طفلك والكشف المبكر عن حالات اضطرابات اللغة، كما يمكنك متابعة صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي لمواكبة أحدث الطرق لتحفير لغة طفلك ومساعدته على التقدم.