بقلم: د. هيفاء الروقي

أستاذ مساعد بجامعة الملك عبدالعزيز

دكتوراة في أثر الأجهزة الرقمية على لغة الأطفال من جامعة مانشستر ببريطانيا

تشكل السنوات الأولى من عمر الطفل فترة مهمة لنموه العقلي واللغوي، وتلعب الخبرات المبكرة خلال هذه المرحلة دورًا مهمًا في التطور التنظيمي والوظيفي للدماغ. ولهذا فإن العادات والممارسات اليومية التي تتخلل يوم الطفل لها أكبر الأثر على نموه وتطور مهاراته المختلفة. تُعد القراءة للأطفال منذ الصغر من أهم الممارسات المفيدة للنمو العقلي واللغوي للأطفال، فالقراءة تحفز الفضول للمعرفة لدى الطفل وتقوي ذاكرته، كما تُعرِّض الأطفال لتجارب ومفاهيم وكلمات جديدة قد لا يصادفونها في حياتهم اليومية، كما تُعوِّدهم على مهارة الاستماع وهي مهارة يتوجب عليهم إتقانها حين يلتحقون بالحضانة أوالروضة ويختلطون بمجتمعات أكبر تتطلب الالتزام بالنظام.

القراءة المبكرة للأطفال من أهم مسببات النجاح في إتقان مهارات القراءة في الصفوف الابتدائية الثلاث الأول وإتقان القراءة في السنوات الدراسية الأولى مهم للغاية حيث أن صعوبات القراءة في المرحلة الابتدائية ترتبط بصعوبات تعلم وإخفاق أكاديمي في السنوات اللاحقة. تشير الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال إلى أن الأطفال الذين يقرأون بكفاءة في الصف الثالث الابتدائي يحققون نتائج ثانوية عامة أعلى ونجاحاً وظيفياً أعلى (Council on Early Childhood, High, & Klass, 2014).

ورغم أهمية القراءة للأطفال منذ الصغر فإن معدلات القراءة للأطفال الصغار في المملكة العربية السعودية منخفضة إذ تشير دراسة أجريناها إلى أن 60% من الأطفال السعوديين 1-3 سنوات الذين شملتهم الدراسة لا يُقرأ لهم إطلاقاً كما أن أكثر من 50% منهم لا يمتلكون أكثر من كتابين للأطفال في المنزل (Alroqi, Serratrice, & Cameron-Faulkner, 2022) . هذه الأرقام مقلقة خصوصاً إذا ما قارناها بممارسات القراءة للأطفال في دول أخرى حيث تشير التقارير إلى أن أكثر من 50% من الأطفال تحت الثامنة في بريطانيا يقرأون أو يُقرأ لهم يومياً (Kucirkova & Littleton, 2016) كما أن نصف الأطفال بين عمر 2 و 4 سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية يقرأ لهم أهاليهم يومياً  .(Rideout, 2017)

بماذا يتميز الأطفال الذين يُقرأ لهم عن غيرهم؟

يتمتع الأطفال الذين يبدأ أهلهم بالقراءة لهم في سن مبكرة والذين يُقرأ لهم أكثر بـ:

• مفردات أوفر وأكثر تنوعاً
• مهارات قراءة وكتابة أعلى
• تراكيب جمل أكثر تعقيداً وتنوعاً
• حب واستمتاع أعلى بالكتب والقراءة
• ارتباط أوثق مع الوالدين
• استعداد مدرسي أعلى
• انتباه وتركيز أعلى
• نتائج أعلى في مقاييس التطور الاجتماعي والادراكي واللغوي والعاطفي

أثر القراءة على النمو العقلي للطفل

تشير الأبحاث إلى أنه كلما قرأنا أكثر للطفل كلما زادت قدرة الوصلات العصبية في دماغ الطفل على النمو والاتصال. كما وجدت دراسات أن قراءة الكتب وحكايات قبل النوم للأطفال في السنوات الأولى والتحدث معهم منذ الولادة يزيد من قوتهم العقلية ويهيئهم للنجاح المدرسي في السنوات اللاحقة. وفي دراسة باستخدام صور الرنين المغناطيسي MRI وجد باحثون أن مناطق في الجانب الأيسر من المخ تنشط عند القراءة للأطفال 3-5 سنوات تشمل المناطق المسؤولة عن فهم معاني الكلمات وفهم السرد والخيال  (Hutton et al., 2015). وفي دراسة حديثة ارتبطت كمية القراءة للأطفال قبل سن المدرسة بزيادة ما يعرف بالتكامل المجهريmicrostructural integrity  في المادة البيضاء من الدماغ وهو ما يدعم تطور مهارات اللغة والمهارات الأولى للتعلم والقراءة والكتابة (Hutton et al., 2020).

أثر القراءة على النمو اللغوي للطفل

يعتبر النمو اللغوي في أسرع مراحله في الطفولة المبكرة، ويساعد النمو اللغوي الطفل على التعبير عن ذاته وتكوين العلاقات الاجتماعية والتفاعل مع المحيطين به كما يسهل النمو العقلي والمعرفي للطفل. يُعد العديد من المختصين القراءة ثاني أفضل نشاط لتحفيز نمو اللغة بعد التواصل المباشر مع الأم وينصحون الأهالي بالقراءة للطفل منذ الشهور الأولى، فعلى الرغم من أن الأطفال حديثي الولادة قد لا يفهمون ما تقرأه لهم الأم إلا أن صوتها كفيل بتحفيز فضولهم لأصوات الحروف وبتطوير مهاراتهم السمعية. تشير إحدى الدراسات إلى أن القراءة المشتركة للأطفال في عمر 8 أشهر ترتبط إيجابيًا بمهارات لغوية تعبيرية أعلى لاحقاً في عمر 12 شهر و16 شهرKarrass & Braungart-Rieker, 2005))، كما أن العمر الذي تبدأ فيه ممارسة القراءة المشتركة يعد – وفقاً لعدة دراسات – من أهم عوامل تطور المهارات اللغوية الشفهية في عمر السنتين  (Debaryshe, 1993)وكذلك نمو المفردات التعبيرية في عمر الرابعة (Payne, Whitehurst, & Angell, 1994). تشير إحدى الدراسات كذلك إلى أن الأطفال الذين كان يُقرأ لهم بانتظام في عمر 6 أشهر كانت نسبة زيادة المفردات لديهم في عمر 18 شهر 40% مقارنة بنسبة زيادة قدرها 16% لدى الأطفال الذين لم يكن يُقرأ لهم وهم في عمر 6 أشهر (High et al., 2000). ليست القراءة فقط بل وجدت دراسات أن تقليب الصفحات والتعرض للحروف والنصوص المطبوعة يرتبط إيجابيًا بنمو المفردات الاستقبالية التي يفهمها الطفل وبتعلم أساسيات القراءة والكتابة (Bus, van IJzendoorn, & Pellegrini, 1995; Mol & Bus, 2011).

التفسيرات العلمية لآثار القراءة على لغة الطفل

تنوعت التفسيرات العلمية لآثار القراءة، فالبعض يراها فرصة للانتباه المشترك Joint Attention وهو أحد أهم الظواهر المرتبطة بالتطور الإدراكي والاجتماعي واللغوي. فيما يعزو آخرون أثر القراءة الإيجابي على النمو اللغوي لما تقدمه الكتب من كلمات جديدة، ومفردات أوسع وأكثر تنوعاً، وتراكيب جمل أكثر تنوعاً وتعقيداً من الجمل التي قد يسمعها الأطفال في حياتهم اليومية، وكذلك صور لأشياء وعرض لتجارب قد لا يرونها أو يعيشونها في حياتهم اليومية. وفي دراسة للباحثة إيريكا هوف قامت بتحليل حديث الأم في أربع مواضع تواصلية: قراءة الكتب، وتلبيس الطفل، ووقت الوجبة، وأثناء اللعب بالألعاب ووجدت أن حديث الأم خلال القراءة كان الأوسع من حيث تنوع المفردات والأعلى من حيث تعقيد تراكيب الجمل وكذلك من ناحية نسبة الردود المتعلقة بالموضوع Hoff-Ginsberg, 1991)).

القراءة المشتركة كذلك هي فرصة لفتح مواضيع بين المربي وبين الطفل، فالأطفال لا يستفيدون من الكلمات في صفحات الكتب فقط بل من الحوار بين المربي والطفل خلال ممارسة نشاط القراءة ومن الحوار الناتج عن محاولة المربي توصيل معاني النص للطفل. تقدم القصص والكتب كذلك مواد ثرية تلهم الوالدين للحديث مع الطفل عن مفاهيم مختلفة وتعطيهم فرصة الإشارة للحروف والكلمات الجديدة أو مناقشة عناصر لغوية أخرى مستنبطة من الكتاب (Liebeskind et al, 2014) . تعلم الطفل من خلال القراءة المشتركة ليس بمستغرب حيث أن الأطفال يتعلمون بالشكل الأمثل حين يندمجون مع شخص أكثر معرفة يقوم بتجسير وصولهم للمحتوى والمفهوم الجديد (Liebeskind et al, 2014).

يرى باحثون أن للقراءة تأثيرًا على نوعية حديث القارئ وبالتالي على تطور لغة الطفل فعند القراءة للأطفال بشكل تفاعلي فإن الأم أو المعلمة:

• تستخدم مفردات أوسع
• تستخدم جمل أكثر تعقيداً وتنوعاً
• تتحدث عن اللغة
• تلفت انتباه الطفل للصور وتسميها
• تحفز الطفل للرد والاستجابة
•  تسأل أسئلة
• تجيب على أسئلة الطفل
• تعطي تأكيد لاستجابات الطفل

كما يظهر المربي سلوكيات لفظية خلال القراءة تساعد في تحقيق نتائج تعليمية لدى الأطفال أكثر من النتائج التي يحققونها بمفردهم مثل تقديم الكلمات الجديدة والتعليم العرَضي (غير المباشر) للحروف والكلمات، والإشارة إلى النص المكتوب، وفي كل مرة يتم تكرار قراءة نفس القصة أو الكتاب يتم تكرار هذه السلوكيات اللفظية وتعزيزها.

أياً كان عمر الطفل فإن القراءة فرصة للاحتضان والارتباط مع الأبناء، كما أن تضمين القراءة كجزء من الروتين اليومي للطفل منذ البداية يجعل الطفل يربط القراءة والكتب بالمتعة ويجعلها جزء طبيعي ومألوف من يومه. الاستثمار في الكتب هو استثمار في عقول أطفالنا ومستقبلهم، والقراءة معهم هي فرصة ثمينة للتقارب بيننا نصنع من خلالها لحظات نوعية تظل في ذاكرتهم إلى الأبد.

طفلك لغته متأخرة مقارنةً عن بقية اقرانه؟ 

قيسي مستوى تطور لغة طفلك الآن وأحجزِ جلسة مع أخصائي مختص!

المصادر:

Alroqi, H., Serratrice, L., Cameron-Faulkner, T. (2022). The association between screen media quantity, content, and context and language development. Journal of Child Language, 1-29. 

Bus, A. G., van IJzendoorn, M. H., & Pellegrini, A. D. (1995). Joint book reading makes for success in learning to read: A meta-analysis on intergenerational transmission of literacy. Review of Educational Research, 65(1), 1-21.  

Council on Early Childhood, High, P. C., & Klass, P. (2014). Literacy promotion: an essential component of primary care pediatric practice. Pediatrics, 134(2), 404–409. 

Debaryshe, B. (1993). Joint picture-book reading correlates of early oral language skill. Journal of Child Language, 20(2), 455-461. 

High, P. C., LaGasse, L., Becker, S., Ahlgren, I., & Gardner, A. (2000). Literacy promotion in primary care pediatrics: Can we make a difference?. Pediatrics, 105(4 Pt 2), 927–934.Hoff-Ginsberg, E. (1991). Mother-child conversation in different social classes and communicative settings. Child Development, 62(4), 782–796. 

Hutton, J. S., Horowitz-Kraus, T., Mendelsohn, A. L., DeWitt, T., Holland, S. K., & C-MIND Authorship Consortium (2015). Home Reading Environment and Brain Activation in Preschool Children Listening to Stories. Pediatrics, 136(3), 466–478. 

Hutton, J. S., Dudley, J., Horowitz-Kraus, T., DeWitt, T., Holland, S. K. (2020). Associations between home literacy environment, brain white matter integrity and cognitive abilities in preschool-age children. Acta Paediatr. 109, 1376– 1386.  

Karrass, J., & Braungart-Rieker, J. M. (2005). Effects of shared parent-infant book reading on early language acquisition. Journal of Applied Developmental Psychology, 26(2), 133–148. 

Kucirkova, N., & Littleton, K. (2016, February). The digital reading habits of children: A national survey of parents’ perceptions of and practices in relation to children’s reading for pleasure with print and digital books. http://booktrustadmin.artlogic.net/usr/resources/1407/digital_reading_survey-final-report-8.2.16.pdf

Liebeskind, K. G., Piotrowski, J. T., Lapierre, M. A., & Linebarger, D. L. (2014). The home literacy environment: Exploring how media and parent–child interactions are associated with children’s language production. Journal of Early Childhood Literacy, 14(4), 482–509.  

Mol, S. E., & Bus, A. G. (2011). To read or not to read: A meta-analysis of print exposure from infancy to early adulthood. Psychological Bulletin, 137(2), 267–296.  

Payne, A. C., Whitehurst, G. J., & Angell, A. L. (1994). The role of home literacy environment in the development of language ability in preschool children from low-income families. Early Childhood Research Quarterly, 9(3–4), 427–440.Rideout, V. (2017). The Common Sense census: Media use by kids age zero to eight. San Francisco, CA: Common Sense Media. https://www.commonsensemedia.org/sites/default/files/uploads/research/csm_zerotoeight_fullreport_release_2.pdf