أصبحت الشاشات في عصرنا الرقمي جزء لا يتجزأ من حياتنا، وتبع الازدياد المتسارع في استخدام الأجهزة الرقمية ظهور العديد من الآثار الإيجابية والسلبية على الأفراد والمجتمعات.
للشاشات آثار كثيرة على عدة نواحي منها النوم، والوزن، والأداء الأكاديمي، والمهارات الاجتماعية، والسلوك، ولكن تركيزنا هنا هو على النمو اللغوي لا سيما في السنوات الخمس الأولى والتي تعد المرحلة الذهبية لتطور اللغة الأم لدى الأطفال. ولا شك أن النمو اللغوي يساعد الطفل على التعبير عن ذاته وتكوين العلاقات الاجتماعية والتفاعل مع المحيطين به كما يسهل النمو العقلي والمعرفي للطفل.
يعتقد البعض أن أشعة الشاشات ضارة بحد ذاتها وأن هذا هو السبب خلف التوصيات الصارمة فيما يخص استخدام الأطفال تحت السنتين للشاشات، ولكن هذا الادعاء غير مدعم بنتائج الدراسات العلمية، وإنما ما يُخشى منه هو ما يعرف بفرضية الإحلال Displacement وتعني أن يحل وقت الشاشة محل أوقات أخرى أكثر أهمية للطفل كوقت النوم ووقت النشاط البدني والحديث مع الوالدين والإخوة والقراءة واللعب.
الشاشات والأطفال تحت السنتين
إذا ما ركزنا على النمو اللغوي فإن العديد من الدراسات وجدت ارتباطاً سلبياً بين زيادة استخدام الشاشات والنمو اللغوي لدى الأطفال تحت عمر السنتين. تشير الدراسات إلى أن الأطفال في هذا العمر لا يتعلمون مهارات التواصل من الشاشات حتى وإن تم تعريضهم لبرامج تعليمية، حيث أن الاكتساب الأمثل للغة يحدث حين تكون بيئة الأطفال محفزة ومثرية لغوياً عبر توجيه الحديث المباشر لهم من قبل أشخاص حقيقيين مستخدمين للغة الأم، وعلى وجه الخصوص تلعب الأم الدور الأهم – بحسب الدراسات – في النمو اللغوي للطفل، فالأمهات والآباء الذين يتحدثون بكثرة مع أطفالهم ويصفون الأحداث والأشياء من حولهم ويستخدمون مفردات وجمل متنوعة ويعرضون أطفالهم لتجارب حياتية مختلفة ويتحدثون عنها مع الطفل وعلى مسمع منه يكون نمو أطفالهم اللغوي أسرع وأفضل، وإذا حلت الشاشات محل هذا الوقت بحيث انشغل بها الطفل لساعات طويلة وانشغل بها الوالدان عن الطفل فإن هذا يفوّت على الطفل فرص ثمينة للنمو في السنوات الحرجة الأولى لتطور اللغة.
الشاشات والأطفال الأكبر من سنتين
أما الأطفال بين عمر سنتين إلى خمس سنوات، فقد وجدت الدراسات أنه يمكنهم التعلم من الشاشات وقد تقدم لهم محتويات إثرائية وممتعة فيما لو تم اختيار المحتويات بعناية وتقنين وقت الاستخدام بما لا يتجاوز الساعة إلى ساعتين يومياً.
أما الأطفال فوق خمس سنوات فلا يخشى على نموهم اللغوي من الشاشات بل قد توفر لهم الشاشات فرص للتواصل مع الآخرين نصياً وصوتياً وتعرضهم لمحتويات توسع مداركهم وتزيد من ثقافتهم، وهذا بالتأكيد إذا تم الاستخدام الإنترنت بشكل آمن وتم توعية الطفل حول الفوائد والمخاطر التي ينطوي عليها استخدام الأجهزة والتواصل مع الآخرين في الفضاء الرقمي.
نوعية المحتوى مهمة أيضاً
في حديثنا عن الشاشات يميل الكثيرون للتركيز على الوقت الذي يقضيه الأطفال في استخدام الشاشات ولكن عاملي النوع والكيفية مهمان أيضاً، فنوعية المحتويات التي يتعرض لها الأطفال تلعب دوراً في نموهم اللغوي، حيث تشير دراسات إلى أن البرامج التي توجه فيها الشخصيات الحديث للطفل وتحاول استنطاقه وتحفيزه للرد وتعطيه فرصة للرد والتخمين وتتحاور فيما بينها وتحاكي الحوار الطبيعي وتقدم فرص لسماع مفردات متنوعة وتمثيل بصري لهذه المفردات ترتبط بنمو لغوي أفضل، ولكن هذا النوع من البرامج عالية الجودة يشكل للأسف نسبة قليلة من البرامج المتوفرة بالعربية للأطفال.
أما البرامج التي لا تحتوي على استخدام للغة كتلك التي تستخدم رطانة بغير معنى والبرامج الصامتة أو التي تحتوي موسيقى فقط فإنها لا تثري مفردات الطفل، وهذا النوع من البرامج أصبح شائعاً مؤخراً على اليوتيوب حيث تستهدف الأطفال من مختلف أنحاء العالم ولا تستخدم لغة معينة لكي لا تنحصر المشاهدات على مستخدمي هذه اللغة.
كما يشيع في الفترة الأخيرة نوع الأغاني ذات النمط السريع والتي تتغير فيها المقاطع بسرعة ويكون فيها تقريب وتبعيد لزاوية الكاميرا بطريقة متسارعة وهذا النوع من المحتويات – بحسب دراسات – قد يشتت انتباه الطفل ويحول دون أن يتعلم من الشاشة، وهو نمط شائع في منطقتنا العربية مع أغاني الأطفال على اليوتيوب والتلفزيون.
وجدت دراسة قمنا بها أن الأطفال تحت عمر الثلاث سنوات في السعودية يشاهدون المحتويات غير التعليمية وأغاني ألأطفال أكثر من مشاهدتهم للمحتويات التعليمية، فيما يشاهد أقرانهم في الولايات المتحدة البرامج التعليمية أكثر من البرامج غير التعليمية، ولعل هذا يعود إلى نقص في توفر البرامج ذات الهدف التعليمي في البيئة الإعلامية للأطفال في الوطن العربي.
كثير من الأهالي يكتفي بما يسهل الوصول إليه من محتويات أو ما يجده عند البحث السريع عن برامج للأطفال. ولهذا فإن هناك الكثير مما يمكن عمله لتقديم تجربة رقمية نافعة وآمنة لأطفالنا منها ما يقع على عاتق المنتجين وصانعي المحتوى، ومنها ما يقع على عاتق الأهالي الذين يؤمل أن يبذلوا جهد في البحث عن المحتويات الملائمة وتوفيرها وتوجيه الطفل لاستخدامها بدلاً من المحتويات غير الملائمة.
المشاهدة المشتركة وأثرها على النمو اللغوي
تتجه الدراسات مؤخراً إلى التركيز على كيفية المشاهدة وليس الكم والنوع فقط، فمشاركة الأطفال الصغار أثناء المشاهدة أو اللعب بالأجهزة الإلكترونية يرتبط بآثار إيجابية على المهارات اللغوية والاجتماعية أكثر من الاستخدام المنعزل.
ومن الطبيعي أن تكون مشاركة مشاهدة شاشة التلفزيون أو لعب ألعاب الفيديو أسهل وأكثر شيوعاً من مشاركة استخدم الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية، إذ تعد المشاهدة المشتركة نوع من أنواع الانتباه المشترك Joint Attention وهو من أهم الممارسات التي ترتبط بالنمو اللغوي لدى الأطفال. كما أن المشاهدة المشتركة تفتح مجال للحوار بين المربي والطفل حول المحتويات التي تتم مشاهدتها خصوصاً إذا استثمرها المربي للتعليق على المحتوى وشرح المفردات وربط المحتوى بواقع الطفل باستخدام مفردات وتراكيب متنوعة تثري معرفة الطفل ولغته.
التوصيات العالمية
تصدر العديد من المنظمات توصيات حول وقت الشاشة للأطفال ويتم تحديث هذه التوصيات باستمرار بما يعكس نتائج آخر الأبحاث المتعلقة باستخدام الشاشات في سنوات الطفولة، ومن أهم التوصيات توصيات الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال والتي تنقسم لقسمين، قسم يختص بالأطفال تحت 5 سنوات و قسم يختص بالأطفال فوق 5 سنوات.
توصيات الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال فيما يخص وقت الشاشة للأطفال تحت 5 سنوات:
- تجنب استخدام وسائل الإعلام الرقمي للأطفال تحت 18 شهر (ما عدا مكالمات الفيديو)
- في حال رغب الأهل بتقديم وسائل الإعلام الرقمي للأطفال 18-24 شهر فيتوجب اختيار برامج ذات جودة عالية ومشاركة الطفل أثناء المشاهدة أو الاستخدام
- الحد من تعرض الأطفال 2-5 سنوات للشاشات، ويسمح بساعة واحدة كحد أقصى على أن يكون المحتوى ذا جودة عالية وعلى أن تتم المشاهدة مع الطفل ومساعدته على فهم المحتوى و ربط ما تعلمه بالمحيط الواقعي
- تجنب البرامج السريعة، والتطبيقات التي تحتوي على الكثير من العناصر المشتتة للانتباه، وكذلك المشتملة على عنف
- إغلاق التلفزيون وأي اجهزة أخرى عند عدم استخدامها
- تجنب استخدام وسائل الإعلام على أنها الطريقة الوحيدة لتهدئة الطفل
- مراقبة المحتويات التي يستعرضها الطفل والتي يقوم بتحميلها، و استعراضها وتجربتها قبل أن يستخدمها الطفل
- الحرص أن تكون غرف النوم، وأوقات الوجبات، وأوقات اللعب مع الوالدين خالية من الشاشات تماماً
- منع التعرض للشاشات قبل النوم بساعة على الأقل وإزالة جميع الأجهزة من غرف نوم الأطفال
توصيات الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال فيما يخص وقت الشاشة للأطفال فوق 5 سنوات
- وضع خطة عائلية لاستخدام الأجهزة تتضمن:
- نوعية المحتويات التي يمكن مشاهدتها وكيفية استخدامها بما يتناسب مع عمر كل طفل ومبادئ وقيم العائلة
- تحديد مدد معينة للاستخدام والمشاهدة يتم الاتفاق عليها مسبقاً
- الحرص على أن يقضي الأطفال والمراهقين المدد الزمنية التي ينصح بها للنشاط البدني (ساعة واحدة على الأقل) و النوم (8-12 ساعة بحسب عمر الطفل)
- أن لا ينام الأطفال مع أجهزة في غرف نومهم بما فيها أجهزة التلفاز و الكمبيوتر والأجهزة الذكية
- أن يتوقف التعرض للشاشات قبل وقت النوم بساعة واحدة
- عدم استخدام الشاشات وقت أداء الفروض الدراسية
- تخصيص أوقات خالية من الشاشات (كوقت العائلة) وأماكن خالية من الشاشات (كغرف النوم)
- التشجيع على الأنشطة التي تحفز النمو وتطور المهارات كالقراءة والحديث واللعب المشترك
- توصيل هذه القوانين إلى مقدمي الرعاية الآخرين حول الطفل كالمربيات أو العاملات المنزليات والأجداد والجدات وذلك لضمان اتباع قوانين استخدام الشاشات بانتظام
- اختيار المحتويات للأطفال ومشاركتهم في اللعب والمشاهدة
- الحوار مع الأطفال عن المواطنة الرقمية والأمان الرقمي، والحديث عن أهمية معاملة الآخرين باحترام سواءاً عند التعامل المباشر أو عبر الانترنت وتجنب التنمر الالكتروني والمراسلات غير الأخلاقية والحذر من التغرير عبر الانترنت ومن التواصل الذي قد يخترق الخصوصية أو الأمان
- تشكيل دائرة من الراشدين الموثوق بهم (كالأقارب) الذين يمكن لهم التواصل مع الطفل عبر وسائل التواصل الاجتماعي والذين يمكن للطفل اللجوء لهم عند مواجهة تحديات
كلمة أخيرة
في عصرنا الحالي أصبحت الشاشات جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية ومع الجائحة أصبحت ضرورة للتواصل والتعليم ولم تعد رفاهية، الشاشات جائت لتبقى فمحاربتها ورفضها ليس الحل ولكن هذا لا يعني الإفراط في استخدامها أو أن تحل محل الأنشطة والممارسات اليومية الأخرى الأكثر أهمية أو إغفال انتقاء المحتويات ومراقبتها. من حق أطفالنا علينا أن ينشئوا في بيئة آمنة تثري معارفهم وتطور مهاراتهم، ومن حقهم أن ينمو النمو السليم وأن يعيشوا حياة صحية متوازنة وهذا يتحقق بالوعي وبذل الجهد والوقت للتعرف على بيئتهم الرقمية وضبطها وتوجيهها التوجيه الأمثل.
من خلال تحميل تطبيق ينمو الأسرة، بادر في الكشف المبكر على لغة طفلك وطبق مقياس التطور اللغوي لمعرفة مدى نمو مهاراته اللغوية
د. هيفاء الروقي
أستاذ مساعد بجامعة الملك عبدالعزيز
دكتوراة في أثر الأجهزة الرقمية على لغة الأطفال من جامعة مانشستر ببريطانيا